نجيب فراج -سلط الباحث المختص في شؤون اللاجئين صلاح عبد ربه الضوء على قرية زكريا التي هجر اهلها في العام 1948 الضوء من خلال بحث مستفيض عنها معتمدا على التاريخ الشفوي وعلى الرواة من ابناء القرية بشهادات مكتوبة له. والباحث عبد ربه هو ناشط في العديد من المؤسسات التطوعية التي تنشط في صفوف اللاجئين وخاصة الشبان منهم وسبق له ان كان ناطقا اعلاميا باسمر اتحاد مراكز الشباب في الضفة الغربية، وقد نشط بعقد عدد من المؤتمرات حول اللاجئين في اماكن مختلفة من الضفة والتي خرجت عنها توصيات اهمها بالتوجه الى القيادة الفلسطينية ليس فقط بعدم أي مساومة على حق العودة بل الكف عن اطلاق تصريحات يمكن ان يفهم بالاستعداد لاي تنازل. تقع قرية زكريا التي أقيم عليها الآن مستوطنة (زخاريا ) شمال غرب الخليل، جنوب الخط الحديد بين القدس و الرملة، خلال فترات العهود المتعاقبة على فلسطين كانت تابعة للقدس ، و الرملة ، وسقطت عام 1948 و هي تابعة لمحافظة الخليل، وتاريخها يعود للعصر الكنعاني شانها شان الاغلبية العظمى من القرى الفلسطينية، وارتبطت معركة اجنادين بين الروم والمسلمين بالقرية التي وقعت الى جوارها واضحى الموقع يعرف باسم “الجنابتين وهي خربتان تابعتان لزكريا، و بالقرب من (جنابا) الفوقا يقع مقام (الصالحي) وهو المكان الذي دفن به الصحابة الذين استشهدوا في (أجنادين) التي انتصر فيها الفاتحون الجدد يوم 30/7/634م. و ارتبطت بعض المواقع في زكريا بما ورد في الكتاب المقدس، وفي عام 1898م نقب تل زكريا، واتضح أنه موقع لمدينة (ازكاح) القديمة، التي كانت المكان الذي انتصر فيه يشوع على الكنعانيين. ويؤكد عبد ربة ما هو معروف، من أن زكريا كانت من أوائل القرى الفلسطينية التي ظهر فيها التعليم، وانتقل التعليم من الكتاتيب إلى المدرسة الابتدائية في العشرينات من القرن الماضي، وفي أواخر العشرينات كانت ابتدائية كاملة و مختلطة. ومن الأمور التي يفخر بها أهالي زكريا المشتتين الآن أن القرى المجاورة كانت تحضر إلى زكريا لكتابة الرسائل أو فكها أو تحرير عقود الزواج أو حجج البيع و الشراء، أو التعاويذ الدينية، وما زال الناس يتندرون حتى الآن على استخدام أهالي زكريا المبالغ به للغة الفصحى، و لاستخدامهم لحرف الكاف بالفصحى، وليس بالعامية الفلسطينية المعروفة. و ينقل عبد ربة عن أحد الرواة، أن أهل زكريا كانوا مغرمين باقتناء الكتب مثل تفاسير القرآن، وكتب الطبري وابن مالك، والبخاري، على سبيل المثال، وكانوا يتابعون في الثلاثينيات والأربعينيات مجلتي (الرسالة) و (الثقافة) المصريتين، وهو أمر ربما كان مفاجئا لأهالي قرية فلسطينية صغيرة لا ترى على الخارطة . وضع المراة من خلال العديد من الروايات فان القرية امتازت بان وضع نسائها كان وضعا مميزا في كيفية التعامل معهن حيث كانت (البنت) في زكريا تتعلم مع (الولد) في نفس المدرسة، وكانت تقوم المرأة بأعمال الأرض جنبا إلى جنب مع الرجل.، لكن المرأة كانت (خادمة للرجل، و لكن الوضع تغير بعد اللجوء) كما تقول الراوية -هنية أحمد يونس-. ويمكن تفسير التغير للأعباء الاقتصادية الكبيرة والمعاناة التي عانها الأهالي في المخيمات، حيث كان في انتظار المرأة أعباء كبيرة من الذهاب لجلب الحطب من الجبال و البرية المجاورة للمخيمات إلى جلب المياه من الآبار البعيدة إلى العمل بالحياكة أو التطريز للصرف على البيت. عشية النكبة كان الأهالي يسمعون أخبار حرب عام 1948 عن طريق الراديو الموجود لدى مختار القرية، وقبل التشريد بقليل أصبح هناك راديو آخر لدى (أحمد يونس العيسة)، وكان من يريد أن يسمع الأخبار يذهب إلى حيث يضع المختار الراديو في الطابق الثاني من بيته على الشباك المشرف على الجامع، وعادة ما يتم فتح الراديو للناس بعد انتهاء الصلاة. و أيضا كان الأهالي يتابعون الأخبار عن طريق المجاهدين الذين يذهبون و يعودون أو يمرون من القرية، أو عن طريق الجرائد مثل (الجامعة الإسلامية) و(الدفاع). حيث من كان يأتي من يافا أو من الخليل مثلا يحضر معه الجرائد. تختلف توقعات الرواة عن النتائج التي ستفضي لها تلك الحرب، ويلاحظ عبد ربة بذكاء اختلاف ردود الأفعال والتوقعات لدى الرواة بسبب الثقافة والاطلاع و المشاركة في تلك الأحداث، ويعلن أنه لا يستطيع أن يقيس إذا ما كانت ردود الأفعال تلك تعكس الموقف في حينه أو إنها نتيجة (التكيف الحاصل مع الروايات السائدة أو صفة الإعلام المكتسب خلال سنوات اللجوء الطويلة). وكثير من الرواة لم يكونوا يتوقعون أن تؤدي الحرب إلى نكبة، وأنهم كانوا يتوقعون أن (يفزع) العرب و يوقفون اليهود عند حدهم..! وبعد سقوط مدينتي الرملة و اللد في تموز عام 1948 تهددت زكريا مثل عشرات القرى التي تقع في المناطق الجنوبية من فلسطين، و بعد قيام “إسرائيل”. تعرضت زكريا للقصف المدفعي المباشر في متصف تشرين أول من نفس العام.و لكن لم يحل ذلك بداية من تمسك الأهالي بقريتهم و عدم لجوئهم منها. و استمرت الحياة في القرية و كان مقاتلون من القرية يقاتلون ضد العصابات الصهيونية في مناطق أخرى ساخنة. و جمعت تبرعات من الأهالي وتم شراء بنادق للدفاع عن القرية. و لكن حسب بعض الرواة أن أخبار استشهاد مقاتلين من القرية في مواقع أخرى بدا يؤثر على الوضع داخل القرية حتى دخول الصهاينة للقرية. و يورد الرواة جكايات عن الجهاد الفردي والبطولات المبعثرة دون توجيه أو قيادة. وكانت تعتمد على استنهاض الهمم و (النخوة) و (الفزعة) فالقيادة كانت غادرت فلسطين لتكتب فصلا في تاريخ محير و مؤلم جدا و ملفت للانتباه في سلوكيات القيادات الفلسطينية حتى وقتنا الحاضر ، وتلك قصة أخرى لم تكتب بعد. ويشير الرواة إلى تشكيل لجان من أهالي القرية و من الجنود المصريين الذي عسكروا قريبا من القرية و كانت لهم علاقات وثيقة مع السكان ويتضح ذلك من قول أحد الرواة أن طائرات صهيونية رمت مناشير على القرية تطالب الأهالي بالبقاء في القرية و طرد المصريين منها، و يمنك الاستشفاف من ذلك على الأسلوب النفسي والإعلامي الذي رافق نشوء الكيان الصهيوني، وإذا كان الإعلام الصهيوني أو جهاز دعايتها الذكي والضخم نجح في اختراقات عربية مهمة فيما بعد مثلما نرى الآن في الفضائيات العربية فإنه في تلك الفترة لم يحقق نجاحا يذكر، و يستهجن الرواة كيف يمكن أن يطردوا إخوانهم المصريين العرب..وكانوا يعرفون مبكرا أن هدف المناشير (دق إسفين بين أهالي زكريا و القرى المجاورة، وقيادة الجيش المصري التي كانت تشرف على المتطوعين و توجيههم). وكان فلاحو زكريا البسطاء ، على ما يبدو أذكى من إعلامي الفضائيات العربية الذين يستضيفون على الهواء وخلف الهواء ضباط استخبارات صهاينة بدعوى انهم خبراء. الرحيل يشير الباحث أن من أهم العوامل التي هجرت سكان القرية ، عامل الخوف من جراء ما مارسته المنظمات الصهيونية من قتل و مجازر، و يقول أحد الرواة (إن الإذاعات العربية، لعبت دوراً في الرحيل)ويقصد تركيز هذه الإذاعات على أخبار المجازر و إيرادها بشكل مضخم. و كان حادث قتل ثلاثة من الأهالي وقطع رؤوسهم ووضعها على حجارة سببا في الرحيل والشهداء الذين قتلو هم (الشيخ عبد الفتاح الكواملة) و(عبد الله جفال) و (إبراهيم عليان). و ينقل عبد ربة عن الراوي يونس العيسة الذي شارك في ذلك الوقت في القتال مع أهالي قرية (سلمة) المجاورة لمدينة حيفا رايا يعتبره سببا موضوعيا، و يتعلق بما يمكن تسميته بعدم التوازن بين الطرفين، الذين يملكون المدافع والطائرات و المصفحات وبين طرف آخر لديه بنادق بعضها لا يعمل و بدون ذخيرة. ويقول يونس إن الجيوش العربية التي دخلت فلسطين أخذت الأسلحة من الناس بدعوى أنها هي التي ستقاتل لتحرير فلسطين. والسبب الذي تورده إحدى الراويات هو الكلام الذي تكرر عن الخوف على العرض بعد سماع أنباء عن حوادث اغتصابات. وتم الرحيل في منتصف تشرين أول عام 1948 بعد قصف القرية من قبل المدفعية الصهيونية، و يمكن الاستشهاد بما قاله المرحوم محمود الخطيب أحد مثقفي القرية عن تلك الأيام (بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين عام 1948، حاول المناضلون الفلسطينيون تثبيت خط دفاعي لهم في منطقتنا على الجبال الواقعة جنوب واد الصرار،. و امتد ذلك الخط من قرية (دير ابان) إلى قرية البريج، و ساهمت قريتنا بنصيبها في حماية هذا الخط و تحصينه و الدفاع عنه، وكان الجيش المصري قد أرسل بعض المدربين إلى القرى في منطقتنا، ولكن هذا الخط ما لبث أن تداعى أمام الهجوم الصهيوني الذي شن على المنطقة في 14/10/1948م). ويختلف الرواة عن عدد المشاركين من أبناء القرية في معارك عام 1948 ، وأكبر تقدير أنهم كانوا أربعين مسلحا، و يشير الباحث عبد ربة نقلا عن محمود الخطيب إلى أن شبان القرية و رجالها كانوا يشاركون في النضال منذ الانتداب الإنجليزي على فلسطين وقدموا شهداء في هذه المقاومة، وأن القادة عبد القادر الحسيني و أبو الوليد اللحام و فؤاد نصار، كانوا يشاهدون وهم يجوبون شوارع القرية ويرتادون الحارات حيث تقرا المنشورات والبلاغات الثورية. يخصص الباحث عبد ربة جزءا من بحثه عن ما يسميه (التواجد المصري في زكريا) و يشيد الرواة بوجود مشرفين مصريين على المتطوعين من أبناء القرية. رحلة اللجوء خرج السكان إلى المواقع القريبة للقرية وكانوا يعودوا إليها متسللين بين الوقت و الآخر ومع تطور الأمور ذهبوا إلى القرى القريبة والمجاورة ، واستقر معظم السكان بعد اشهر في مخيمات اللجوء، وكان الأمل لدى السكان بالعودة كبيرا وكانوا يعتقدون أن لجوئهم مؤقتا، وفي هذا السياق لا أعرف إذا كان من المناسب إيراد حكاية قد تكون ذاتية و لكنها ذات دلالة، فوالد كاتب هذه السطور والذي هجر من قرية زكريا إلى مخيم الدهيشة اشترى أكثر من خمسين دونما في قرية زكريا عام 1952 أي بعد أربعة أعوام من لجوئه من قريته، و لا يمكن تفسير ذلك إلا بأن الأمل كان كبيرا لديه ولدى غيره بالعودة إلى قريتهم المحتلة. ويشير عبد ربة إلى محاولات كثيرة بذلها اللاجئون للعودة حيث تركوا ورائهم غلالهم وفراشهم وملابسهم ونقودهم ومصاغ زوجاتهم.
↧
قرية زكريا…روايات عن النكبة وسقوط القرية وحق العودة
↧